افتكر يا أخي ان التغيير الذي صنعه الروح القدس في قلوب الرسل الذين في البداية كانت حياتهم حيوانية جسدانية كانوا خائفين وكان همُّهم الأول هو أن يقوموا بحماية حياتهم، فنرى واحداً منهم قد ترك معلّمه ليلة التسليم وهرب عرياناً ومشى. (مرقس 14 : 51) "وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِسًا إِزَارًا عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ، فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَانً". وهذا كان يعقوب أخو الرب الذي كان عنده فقط ثوبٌ واحدٌ كل أيام حياته كما يقول القديس ثيوفلكثوس، وآخراً أنكره وأما الباقون فقد تراجعوا. وهكذا كانوا يرتجفون خوفاً مثل الأرانب حيث كانوا مجتمعين ومغلق عليهم من الخوف، حيث كانوا مقيمين في العلّية ولم يتجرأوا أن يخرجوا إلى الخارج طيلة حوالي الخمسين يوماً التي تبعت القيامة، ولكن عندما حلّ عليهم الروح القدس غيَّر من ضعف قلوبهم وحوّلها إلى شجاعة وجرأة، وحينها خرجوا بدون خوف كالأسود وبشَّروا بيسوع المصلوب أمام كل الحشود والشعب بجباه مرتفعة وبصدر رجولي وبجرأة ودالَّة، دون أن يجزعوا من أي من الأخطار ولا من العذابات الاستشهادية ولا حتى من الموت نفسه، ولكنهم كانوا يشتهون هذه كلها معتبرينها سعادة وهناء، وكانوا يفرحون بشكل هائل جداً عندما يواجهون هذه الصعوبات. (أعمال خأ5 : 41) "وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ، لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ".
وإن رغبت أكثر بأن ترى أحداً يحب الحياة، إنه بطرس الرسول الذي قبلاً لم يتمكن بأن يسمع باسم الرب يسوع بدون خوف ولا أن يتكلم عنه الشيء البسيط، وكان متعباً وتعيساً، ولكن كيف تراه بعدها يقف بلا خوف وبكل جرأة وبصوت جهور أمام الآلاف من الشعب دون أن يعطي أهمية في نوعيّة سامعيه إن كانوا خطرين أو إن كانت أذانهم من حجارة، ولكنّه بعظته جذب أكثر من ثلاثة ألاف من الشعب إلى المسيح. (أعمال 2 : 14) "فَوَقَفَ بُطْرُسُ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الْيَهُودُ وَالسَّاكِنُونَ فِي أُورُشَلِيمَ أَجْمَعُونَ، لِيَكُنْ هذَا مَعْلُومًا عِنْدَكُمْ وَأَصْغُوا إِلَى كَلاَمِي ...." هل تريد أن ترى الصيادين وغير المتعلمين كيف أنهم امتلؤا من الحكمة والفهم حتى انهم جعلوا الحكماء يمجدون الله ويتساءلون " وَلكِنْ إِذْ نَظَرُوا الإِنْسَانَ الَّذِي شُفِيَ وَاقِفًا مَعَهُمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ يُنَاقِضُونَ بِهِ" (اعمال 4 : 14) وكل هذا لماذا ؟؟ لأنهم أعطيوا في قلوبهم المعرفة الواسعة من الروح القدس كما هو مكتوب عن سليمان (1 ملوك 4 : 29) "وَأَعْطَى اللهُ سُلَيْمَانَ حِكْمَةً وَفَهْمًا كَثِيرًا جِدًّا" لأنه مكتوب (صموئيل الاولى 10 : 26) "مسَّ الله قلبها".
ايتها النعمة، ايتها القدرة، ايتها النار، نار الروح القدس التي إن أضاءت القلب ولو لمرة واحدة فإنها تجعل الأرانب أسوداً والضعفاء أقوياءً والجهال حكماءً، والطين تجعله فخاري والجبناء تحوِّلهم إلى رجال كاملين، وهذا كله لكي يتم ما وعد به الرب من خلال (سفر ميخا 3: 8) "لكِنَّنِي أَنَا مَلآنٌ قُوَّةَ رُوحِ الرَّبِّ وَحَقًّا وَبَأْسًا، لأُخَبِّرَ يَعْقُوبَ بِذَنْبِهِ وَإِسْرَائِيلَ بِخَطِيَّتِهِ".
والآن، أنت يا اخي الذي تقرأ هذه الأمور، فكِّر لو أنك حصلتً على هذه الجرأة والحرارة في قلبك فتجعلك لا تخاف من أي جسد ولا من العالم ولا من رؤساء هذا العالم، إن هذه علامة عن أنك قد تغيَّرت من قِبَل روح الرب كما هو مكتوب في حبقوق (1 : 11) "ثُمَّ تَتَعَدَّى رُوحُهَا فَتَعْبُرُ وَتَأْثَمُ. هذِهِ قُوَّتُهَا إِلهُهَا". فكِّر لو أنك كنت أولاً تهتم بكل مشتهياتك في هذا العالم من الخيرات والغنى والمجد والأهواء، وكنت تظن أن الذي تتوفر عنده هذه الأمور يكون أسعد إنسان في الوجود، ومن ثم بعد ذلك اكتشفت الآن بأن قلبك قد اهترأ وعتِق وأصبح بلا إحساس وقد تحجَّر أكثر من الصخر، وكل ذلك صار بسبب روح العالم والجسدانية التي فيك، فتُبتَ وحزنتَ على زمن حياتك الذي مرَّ دون أن تكون مستحقاً لأن تأخذ من خلال الروح القدس قلباً جديداً يُدرك أين هي مصلحته التي وعد الله أن يعطيه إياها، كما يقول حزقيال النبي (36 : 26) "وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ. وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ".
فإن كنت الآن تبحث عن البدائل، فعوضاً من أن تفتخر بغناك عليك أن تتواضع وتفرح بفقرك، وعوضاً من أن تريد حياة التنعّم والعِزّ ارغب بأن تحيا في القليل وفي العفَّة، واعلم بأن الروح القدس قد بدأ في تغيير قلبك إلى قلب آخر، كما كُتب عن شاول في (1 صموئيل 10 : 9) "وَكَانَ عِنْدَمَا أَدَارَ كَتِفَهُ لِكَيْ يَذْهَبَ مِنْ عِنْدِ صَمُوئِيلَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ قَلْبًا آخَرَ".
لذا افرح واشكر الرب الذي من خلال الروح القدس ليس فقط اعطاك الذهن، ولكنه أيضاً أشعلَ قلبك ليحوّله من قلب جسداني إلى قلبٍ روحيّ، ويحوّلك من طفل جاهل إلى رجل حكيم، ومن عالمي ودنيوي إلى مسيحي حقيقي. هذه هي التغييرات الإلهيَّة والعجيبة التي يفعلها الروح القدس دائماً.
وهذا ما يتكلم عنه لاهوتياً القديس (غريغوريوس اللاهوتي):
"هذا الروح الكلّي الحكمة والكلّي المحبّة للبشر، إن أخذه الراعي يجعله مرتلاً ومخرجاً للأرواح الشريرة ويجعله ملكاً على إسرائيل: (1 صموئيل 16 : 12) (" فَأَرْسَلَ وَأَتَى بِهِ. وَكَانَ أَشْقَرَ مَعَ حَلاَوَةِ الْعَيْنَيْنِ وَحَسَنَ الْمَنْظَرِ. فَقَالَ الرَّبُّ: "قُمِ امْسَحْهُ، لأَنَّ هذَا هُوَ"".
وإن أخذ هذا الروح راعي الغنم فإنه يجمع الشعوب ويجعله نبياً أيضاً: (1 صموئيل 16 : 11) "وَقَالَ صَمُوئِيلُ لِيَسَّى: «هَلْ كَمُلُوا الْغِلْمَانُ؟» فَقَالَ: «بَقِيَ بَعْدُ الصَّغِيرُ وَهُوَذَا يَرْعَى الْغَنَمَ». فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِيَسَّى: "أَرْسِلْ وَأْتِ بِهِ، لأَنَّنَا لاَ نَجْلِسُ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَى ههُنَا"".
واذكر أيضاً داود وعاموس: (1 : 1) " أقوال عاموس الذي كان بين الرعاة من تقوع التي رآها عن إسرائيل في أيام عزّيا ملك يهوذا وفي أيام يربعام بن يوآش ملك إسرائيل قبل الزلزلة بسنتين. فقال أن الرب يزمجر من صهيون ويعطي صوته من أورشليم فتنوح مراعي الرعاة وييبس راس الكرمل".
وإن أخذه شابٌ ذكي فإن هذا الروح يجعله قاضياً راشداً بغض النظر عن عمره، انظر (دانيال 2 : 45) الذي انتصر في الجب على الأسود. وإن قَبِلَه صيادو السمك فإنه يجعلهم صيادي كل العالم لأجل المسيح بقوة الكلمة، أنظر إلى بطرس واندراوس، وإلى ابناء الرعد (مرقس 3 : 17) (إنجيل مرقس 3: 17) "وَيَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ، وَجَعَلَ لَهُمَا اسْمَ بُوَانَرْجِسَ أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ. العهد القديم" اللذين بشرا بكل قوتهما وتكلما بالروحانيات. ولو قبله عشار فإنه يجعله تلميذاً له ويجعل جميع هؤلاء تجار نفوس. وهذا ما يبرهنه حتى الذي كان بالأمس عشاراً وأما اليوم فهو انجيلي (متى 9 : 9) "(إنجيل متى 9: 9) وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، رَأَى إِنْسَانًا جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ". أما إن قَبِله مضطهد متعصب فإنه يحوِّله مثلما حوّل شاول إلى بولس وأعطاه تقوى عوضاً عن الشر الذي كان به (اعمال 8 : 3) "وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَسْطُو عَلَى الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ يَدْخُلُ الْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالًا وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى السِّجْنِ"...هذا ما قاله القديس غريغوريوس في مقالته حول العنصرة.
اخجل إذن يا أخي لأنك لغاية الآن لم تزل بعيداً عن هذه الأفكار الصالحة، وكنت تسير في شرِّ إرادة قلبك، ولم تجعل في قلبك اتساعاً ليسكن فيه الروح القدس، وكونك عشت كإنسان له نفس مجرَّدة دون أن تتقبل ما للروح، كما يقول بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ( 2: 14) " وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا".
أما الآن، فحالاً خذ قراراً لبقية أيام حياتك بأن لا تُحزن الروح القدس بأي أمرٍ شاذ أو بأي شهوة شريرة في قلبك، بحسب الوعد الذي أعطاك إياه الرسول بولس (أفسس 4 : 30) "وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ"، كما ولا تقسِّي قلبك تجاة الإرادة الإلهية مثل قساة القلوب اليهود الذين قال لهم القديس استفانوس في (أعمال 7 : 51) "يَا قُسَاةَ الرِّقَابِ، وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ! أَنْتُمْ دَائِمًا تُقَاوِمُونَ الرُّوحَ الْقُدُسَ. كَمَا كَانَ آبَاؤُكُمْ كَذلِكَ أَنْتُمْ!" ولكن عليك أن تعطي قلبك كلَّه بشهواته لله حتى ينتصر، علماً بأنه نفس الروح الذي تكلَّم في القديم ويأمرك بأن: "يا بني أعطني قلبك" (أمثال 33 : 26).
أتريد أن تعطي قلبك للروح القدس؟ عليك أن تتلوا دائماً وبدون انقطاع اسم الرب يسوع المسيح ابن الله وذلك بالصلاة غير المنقطعة، نعم ان الروح القدس ينبثق فقط من الآب، ولكنه يسمى أيضاً روح الابن وذلك لأن الابن متساوي مع الآب في الجوهر، وأيضاً لأن الروح مستريح في الابن ويفرح عندما نذْكُره، (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 4: 6) "ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: «يَا أَبتي أيُّها الآبُ»". وهكذا، ومن خلال هذه الصلاة الروحيَّة القلبية، فإنك بالروح ترى الابن وبالابن ترى الآب كما يقول القديس باسيليوس الكبير، حتى تصبح مستحقاً من خلال هذا العمل القلبي الروحي أن تجد وأن ترى نعمة الروح القدس التي كنت قد أخذتها بالمعمودية والتي أنت تحويها الآن وتحفظها مثل الشرارة في وسط الأهواء والخطايا.
وأخيراً بما أن الروح القدس هو المعزي الآخر وهو الأقنوم الثالث للثالوث الأقدس ومعطي جميع المواهب، وهو حياة الأحياء، وهو حركة المتحركين، وهو مكمِّل الجميع، أراد بسبب محبته للبشر أن يعلن في قلبك الخطوط الأولى وأول شكل لنعمته، فتضرع إليه الآن بأن لا يتركك وحيداً بل يبقى معك ويقودك إلى الكمال والعمل الذي بدأه بك واهباً لك بقاءه معك وسكناه فيك معطياً لك هذه النعمة أي أن يصير في قلبك إلى النهاية، وهي أعظم من كل المواهب. وهذا هو الختم الذي يبقى معك، وهذا هو مصير كل واحد منا.
بحسب اللاهوتين ومن خلال هذه الموهبة فإنه يجعلك مستحقاً، ومن هنا أيضاً تصبح إنساناً روحانياً وملائكي السيرة وقديساً وابناً لله وإلهاً بالنعمة، وأنت لازلت في مكانك (على الأرض) حتى وإن كنت لم تزل أرضاً ورماداً. وأيضاً يقول القديس باسيليوس الكبير: "حل َّ الروح القدس على نفس الإنسان وأعطاه حياةً وخلوداً وجعله يتحرك باتجاه الأبدية، فأصبح بالروح القدس كائناً حياً وقديساً، وأصبح الإنسان مسكناً للروح، وبالروح يصبح الإنسان نبياً ورسولاً وملاكاً للرب الذي كان قبلاً أرضاً ورماداً".
|